مراجعة كتب

 هل ما ندونه اليوم لغة فصحى ؟ : عن كتاب العرنجية لأحمد الغامدي

“قررت الدائرة الداخلية للحكومة المصرية أن تفتح النار على ظاهرة التسول وقد وفرت صعوبة الحياة الاقتصادية وغياب الرقابة أرضية مشتركة لانتشار ظاهرة التسول” قد نقرأ هذه الجملة بمرور سريع في مقال بصحيفة أو في كتاب وغالبا ستمر على المدققين اللغوين دون اعتراض، ولكن يرد على الأقل خمسة مواطن خلل سقتها متعمداً بتأليفي لهذه الجملة و ما كنت لأعلمها لولى كتاب العرنجية. لمن أراد معرفة هذه المواطن الخمسة أن يكمل القراءة. غفر الله لي ما سيرد من عرنجية في مراجعتي لموضوع الكتاب أو ربما أخطاء لغوية فلست من أهل الاختصاص. 

لماذا اخترت كتاب العرنجية للحديث عنه؟ 

“العرنجية” ما هو بكتاب يتحدث عن مشكلة العامية ولا عن مشاكل بلاغية في العربية الحديثة ولا عن أخطاء نحوية في الكتب المترجمة للعربية بل هو كتاب يطرح جانباً إشكالياً بمنظور جديد يواجه العربية المدونة ويجعل من العربية المدونة اليوم لغة معرّبة عن الإنكليزية وليست بلغة تشابه لسان العرب القويم. مؤلف الكتاب أحمد الغامدي من أهل صنعة الترجمة وما ساقه في كتابه من الدرر لم يكن لمثلي من العوام وحتى لبعض أهل اللغة أن يعلمه.

ليس لي أن أجزم ولكن برأي يصح أن يكون هذا الكتاب ممهداً لباب جديد في علوم اللغة العربية وهو كشف أماكن إماتة أساليب اللغة العربية الفصحى مقابل الأساليب المعرّبة. قد لا يكون الكتاب الأول في بابه وقد استشهد مثلاً المؤلف بكتاب تقويم اللسانين للدكتور محمد تقي الدين الهلالي وصدر الكتاب في سبعينيات القرن الماضي وأيضاً كتاب لغة الجرائد لإبراهيم البازجي و هي تدور في فلك نقد العرنجية و يُحسب للكاتب أحمد الغامدي أنه أطلق مصطلحاً جامعاً للمشكلة وفصّل وأضاف نظريات ومقترحات عن المشكلة بحكم عمله ترجماناً مما يجعل الكتاب أطروحة مميزة لإنشاء باب جديد في علوم العربية المعاصرة وهو كشف الدخيل على العربية.

غلاف كتاب العرنجية. مصدر الصورة: موقع تكوين

كيف أراجع كتاباً لغوياً ولست من أهل الاختصاص؟

يدفعني حبي للغة الضاد لغة القرآن وحبي للكتابة بالعربية الفصيحة واهتمامي بالترجمة ورفد المحتوى المكتوب بالعربية على الشابكة أن أُشْهِدَ من قد تصله كلماتي هذه على هول الصدمة التي تملكتني كلما زدت تقدماً في صفحات الكتاب. استطاع الكاتب أن يخبرني بحقائق ونكبات حلت بلغتنا العربية المستخدمة اليوم جعلتني كثيراً من الأحيان أعبر بحركات يدي و بتعابير وجهي عن تلك الصدمات أثناء القراءة وأنا في الغرفة وحدي وما اعتدت ذلك خلال القراءة. 

ليس لكل كتاب وكاتب الوقع ذاته على القارئ ومردّه لاختلاف حال القارئ ومقدار جهله أو علمه عن فحوى الكتاب وموضوعه. ثم لا يملك الناس في عصرنا الحماسة ذاتها تجاه مسألة كمسألة هذا الكتاب.

أصناف الناس حول معضلة العرنجية

إن جمعي بين علم هندسة الحواسيب واهتمامي بلغتي العربية، ومعايشتي لما يحصل من مقتلة لغوية نتاج اغتراب داخلي وخارجي، اختياري واضطراري للجيل الجديد، والقريب جداً ظهور معالمها بوضوح، جعل وقع الكتاب عليّ ثقيل إذ زاد الكتاب وعياً جديداً بمشكلة غير مشكلة العامية أو مشكلة ضعف العربية عند أبناء العرب. لا أبالغ إن شبهت ما فعله الكتاب بي كما تفعله أي لحظة خشوع تجد فيها جهلك الذي ألفته ثم يتكشّف لك بلحظات وجيزة بصائر المعرفة.

ستجد بعد قراءة الكتاب معضلة جديدة لم يتفكر بها كثير منا، مختلفة عن المعضلات المعروفة مثل ثنائية اللغة لدى عرب اليوم بين فصحى وعامية. سينقسم أصناف الناس حول هذه المعضلة المذكورة في كتاب العرنجية أربعاً: فأكثرهم غافلٌ عنها فلم يحدثهم أحدٌ عنها قبل، وطائفة علمت المعضلة ولا تصنفها بمعضلة وهي تحرص على إدخال غربةٍ للعربية المكتوبة والمنطوقة بدعاوي مختلفة، وطائفة لا يهمها الأمر كثيراً وتجد مجالس مناقشة أثر العرنجية ضرباً من إضاعة الوقت أمام واقع لغوي سائد لا طاقة لتغييره، وطائفة كصاحب هذا الكتاب تحمل في صدرها هم تنوير العقول والقلوب بعظيم خطئنا وخيانتنا للغة القرآن وإماتتنا لآساليب لغتنا الأصيلة مقابل الإفرنجية لا لعجز لغتنا ولكن لجهلنا بلساننا القويم ونشأتنا على “العرنجية”.

ما هي “العرنجية” ؟ 

إن همّ كتاب العرنجية الوحيد أن يفتح بصيرة القارئ بأن ما نستخدمه في كتبنا ونقرأه في كثير من مناهجنا التعليمية هي ليست العربية الفصحى وإنما نسخة مشوهة أعجمية وملحونة لا تشبه عربية القرآن ولا عربية أهل العرب ولا أقول الأوائل وإنما عربية أهل العرب قبل مئتي عام فقط. يردُ في الكتاب مقولة سيجدها صاحب العقل المستنير والذائقة السوية وصاحب الحب الصادق للعربية أنها واصفة حيث ينقل المؤلف عن صاحبه مقولة: “لو قيل لكل لفظ محدث من كلام المعاصرين: (إلحق بأهلك) لما بقي من كلامهم شيء” وربما سيجد الكثيرون صحة العبارة ودقتها مع نهاية الكتاب.

“لو قيل لكل لفظ محدث من كلام المعاصرين: (إلحق بأهلك) لما بقي من كلامهم شيء”

كان لأسباب شتّى الدور الرئيس في عرنجية لغتنا اليوم، والعرنجية هي نحتٌ دمج فيه الكاتب بين كلمتي العربية والإفرنجية وأحسبه أنه أول من استخدم هذا المصطلح بعد بحث سريع على غوغل ولست بأهل اختصاص لأتأكد من هذا. هذا النحت واللفظ “العرنجية” هو الجامع لفحوى الكتاب المبرز لجوانب دخول اللغات الأجنبية وخصوصاً الإنكليزية إلى اللغة العربية ليس بأحرف لاتينية وإنما بأحرف عربية. إن نهج المترجمين في عهد محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر الذين اتبعوا نهج الترجمة الحرفية المطابقة هو من أهم الأسباب المستعرضة في الكتاب التي أدت لعرنجية لغتنا. فهذه الكتب المترجمة أدخلت أساليب لغوية ما هي من لسان العرب فأماتوا واستبدلوا بها ما كان لسان العرب قادراً على أداء ذات المعنى. لقد اعتُمدت هذه الكتب المترجمة لاحقاً مصدراً وحيداً للاطلاع على العلوم المعاصرة وبهذا أصبحت هذه الكتب تشكل العربية المدونة في ذلك العصر ولما بعده حتى أفسدت سلائق الناس وأدخلت خُلسة الخلل للغة العربية الفصحى التي نحسبها فصحى وماهي كذلك واستدل الكاتب على صحة هذا الخلل بمقارنة بين العامية ولغة بعض الكتب وكيف حافظت العامية في بعض المواضع على أسلوب العرب الصحيح.

أطرح بعض الأمثلة التي دلّ بها المؤلف على استخدامنا العرنجية بكثرة بلا إدارك بعد أن أُفسدت ذوائقنا لتلقينا العلوم من كتب تعرنج صاحبوها ونقلو لنا العرنجية حتى أصبحت مقبولة في ذوائقنا. كيف لسليقتنا أن تأنف من سماع عرنجية وقد نشأت عليها في الكتب المدرسية وحتى وصلت العرنجية لكتب عن الدين واللغة نفسها وهذا ما أثبته المؤلف بجلبه لنصوص كتّاب مرموقين وفضلاء استخدموا فيها أساليب العرنجية وهذا إن دلّ على شيء فليس لخبث في هؤلاء الأفاضل وإنما لخبث المرض الذي أصاب لساننا وقلمنا من غير انتباه منا. إن معظم الأساليب الدخيلة العرنجية لم ترد على لسان العرب، ولا أقول في الجاهلية وإنما قبل مئتي عام فقط، وإنما نُقلت للعربية من لغات أجنبية بشكل صريح، وكما قال المؤلف، لو قُدّر لأحد من أهل العربية أن يقرأ من كتبنا اليوم لما فهم كثيراً منها.

مثال على أحد النصوص التي أتى بها المؤلف مقتبسةً من كتّاب مشهورين وأبرز فيها العرنجية 

يبدو لي كما لو كان هو نفسه أم كأنه هو ؟ 

قد نقرأ كثيراً في رواية أو كتاب “يبدو لي كما لو كان هو نفسه” وهي ترجمة مطابقة كلمة بكلمة للإنكليزية “seems to me as if it is the same” وأما لسان العرب القويم يعبر عن هذا كله بكلمة واحدة “كأنه هو” وقد وردت في القرآن الكريم في قصة بلقيس وعرشها. نشهد أيضاً في الصحف وكتب السياسة قول “الرئيس المصري” وهو خطأ ناتج عن اتباعنا للإنكليزية في استخدامهم للنعت لإضافة شيء لشيء وأمّا في العربية فلدينا الإضافة تُستخدم لهذا المقام والصواب أن نقول “رئيس مصر” فقولنا الرئيس المصري تعني أن هذا الشخص رئيس وهو مصري الجنسية وهذا ليس بالضرورة أن يكون رئيساً لبلد مصر. تتّبع العرنجية أيضاً استخدام كان وأخواتها لصفات لا تصريف لها كفعل في الإنجليزية وهي في العربية مصرّفة كأفعال كقول ” لا تكن متكبراً” والصواب “لا تتكبر”.

مما لا يترك مجالاً للإنكار أن طارئاً أصاب لغة الكتابة هو الباب الذي خصه المؤلف لعرض أمثلة لنصوص بالعربية من أزمنة مختلفة  متقدمة ومتأخرة وعرض الترجمة الإنكليزية ثم ترجمها مرة أخرى لعربية هذا العصر “العرنجية” وأوضح مقدار الاختلاف أو التشابه بين النص الأصلي والنص المُستعاد بعد الترجمة بلغة العصر. استطاع المؤلف بهذا الأسلوب أن يثبت كيف أن النصوص الحديثة بعد عصر الترجمة الأخير مطابقة تقريباً كلمة بكلمة للترجمة الإنكليزية وكيف لنصوصٍ من قبل عصر الترجمة فيها أساليب خاصة لا يمكن مقابلتها بالإنكليزية مباشرة. عدّ المؤلف هذه الطريقة طريقة ناجعة لقياس مدى تعرنج النص. فبديهياً ومنطقياً أن يكون هناك اختلاف ظاهر بين النصين لاختلاف اللغات وأساليبها. صدق المؤلف عندما قال: نفكّر بعقل إنكليزي ولكننا نكتب بحروف عربية.

نفكّر بعقل إنكليزي ولكننا نكتب بحروف عربية

أحمد الغامدي
مثال من الكتاب لطريقة مقارنة المؤلف بين نصوص من كتب قبل عهد الترجمة وإبراز الاختلاف بين النص الأصلي والنص المسترد بعد الترجمة بلغة هذا العصر ليدلّل على مقدار التعرنج في عربية هذا الزمان. 
مثال من الكتاب لطريقة مقارنة المؤلف بين نصوص من كتب بعد عهد الترجمة وإبراز التطابق الكبير بين النص الأصلي والنص المسترد بعد الترجمة بلغة هذا العصر ليدلّل على مقدار التعرنج في عربية هذا الزمان. 

أليست العربية والإنكليزية متشابهتان ؟ 

نتوهم عندما نظن أن العربية والإنكليزية شبيهتان في البنية والأساليب فالحال يقول أن العربية الحديثة قد تغرّبت حتى باتت وكأنها تشبه الإنكليزية. من خَبِر العربية والإنكليزية معاً وكانت لديه ملكة جيّدة وبقايا ذائقة فصيحة سيدرك بعد قراءته للكتاب أماكن الترجمة الحرفية المطابقة للإنكليزية كقول بعض الكتّاب لمصطلحات ترجمت تماماً من الإنكليزية وأماتوا مقابلها العربي ومنها: “أرضية مشتركة” وهي ترجمة حرفية للمصطلح الإنكليزي common ground والعرب تقول كلمة سواء وكذلك السلام الداخلي وهي ترجمة مطابقة لـ inner peace والعرب تقول السكينة أو الطمأنينة ومنها أيضاً الدائرة الداخلية وهي ترجمة مطابقة لأصلها الإنكليزي inner circle والعرب تقول المقربون.

لماذا محاربة العرنجية مهمّة جليلة ؟

ما أجلّ هذه المهمّة وهي لفت أنظار الناس عن بعدنا عن لساننا القويم ولغتنا الواسعة الغنيّة وأساليبها الشتى التي أمتناها بتركها وجهلها واستوردنا مكانها أساليب لغة العجم. لبئس التجارة تلك وما أزهدنا ببضاعتنا. لعله يختلف تفاعل الناس مع جدية مشكلة العرنجية وأخص بذلك أولئك المبتورون طوعاً أو كرهاً عن تاريخهم فلا يجدون مضاضةً أن تكون لغتنا مختلفةً بالكليّة ولا بد لكل مسلم أن يعي أن استمرار تفرنج اللغة واستقرارها على ذلك يحرمنا من فهم القرآن وكلام الأوائل.

قد يقول قائل: كل لغات العالم تتغير ولا يمكن لمتكلميها أن يفهموا كلام المتقدمين وهذا شكسبير خير مثال، فشعره يفصله بينه وبين قومه حوالي الأربعة قرون فقط ومع ذلك أصبح شعره ومسرحياته مضرب مثلٍ على الكلام صعب الفهم على ناطقي الإنكليزية اليوم. 

لكنّا نحن أمة الإسلام وناطقي العربية لنا خصوصية وهي أن مطالبتنا لإماتة العربية الأولى واستبدالها بعربية حديثة هي مطالبة لإماتة عربية القرآن وهي ضد مشيئة الله المنزّل القرآن بالعربية القرشية وكثير منا اليوم قادر على قراءتها وفهمها إلى حد ما وقد نزلت منذ 14 قرناً وهذا لا شك إعجاز ومن العناية الإلهية بالقرآن والعربية فهي جزء من القرآن لا يتجزأ منه. 

إن العرنجية لن تصيبنا بمصيبة أن ننتقل من تصنيف أمم ثنائيي اللغة (العامية والفصحى) إلى تصنيف ثلاثيي اللغة ، العامية والعرنجية وفصحى القرآن أو فصحى لسان قريش فقط بل إن العرنجية تبعدنا عن لسان العرب القويم ولسان لغة القرآن والأخطر هو تضاربها معه وضرب المؤلف أمثلة في هذا الباب، فكلمة آسف اليوم نستعملها للاعتذار وهي لدى العرب تعني الحزن وقد وردت في القرآن في موضعين بمعنى الحزن وليس الاعتذار ( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) و آية ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾. وأيضاً دلّل الكاتب على كلمة بسيط والتي نستخدمها ترجمة لكلمة simple والصحيح أن البسيط هو الواسع وقد وردت في كتاب مقدمة ابن خلدون بمعنى واسع بقوله “و الكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب أوقليدوس ويسمى ( كتاب الأوصل وكتاب الأركان) وهو أبسط ما وُضع فيها للمتعلمين” وأما كلمة simple فحري بها أن تترجم بكلمة يسير.

تقويم لساننا وإعادة أستخدام أساليب العربية النقية، أهو غلو وتخلف ؟

يتوهم من خالف محتوى وفكرة الكتاب أن الغلو والتخلف عن ركب الحضارة هي المطلب فلا ضير كما قال المؤلف في اشتقاق جديد ولا في لفظ جديد وإنما المشكلة كل المشكلة في إماتةٍ أو تحريفٍ عن لسان العرب القويم الفصيح. ربما استصعب البعض إدراك مواضع تفرنج اللغة وهذا مبرّر فمن نشأ على كلام وأساليب متفرنجة في الكتب والمجلات والصحف استقر لديه في سليقته، فهو ابن ذلك اللسان وخاصة من لم يعلم من الإنكليزية الكثير فيصعب عليه اكتشاف مدى تقارب الكلام مع مقابله في الإنكليزية وهنا كل الخطورة وخاصة بأن شريحة من أصحاب العلوم الإنسانية والنظرية لا تدفعهم الحاجة للتمكن من الإنكليزية.

سيجد الكثير من الناس تخريجات للكلمات العرنجية وأساليبها ويحاولوا فتن الناس بتخريجاتهم فيحاولون أن يردّوا كل تفرنج لفصيح وهذا ما لا يمكن إيقافه وهديُ صاحبه أن ذلك لن يبرر التعرنج مع وجود الأساليب الفصيحة للتعبير من غير تفرنج يحتاج لتبرير. فلو كتبت في كتابٍ اليوم “تعال نكن على نفس الصفحة” لاستنكر النقّاد كلامك فهي ترجمة مطابقة للمصطلح الإنكليزي الشهير ” to be on the same page” ولقالوا لك حريُّ بك أن تقول ” لنكن متفقين” أو متوافقين. فبالله ما فرق هذه “نكن على نفس الصفحة” عن “أرضية مشتركة” ، ولماذا يرفض ويمجّ عقلنا الأولى ويقبل الثانية والجواب البسيط ( استخدمتُ خطأً كلمة بسيط وقد نقلت عن الكاتب خطأ كلمة بسيط قبل قليل ولكن وددت أن أضع هذه الكلمات ضمن المعترضة لأوضح كم نستخدم العرنجية دون شعور والصواب هنا أن أستخدم كلمة هيّن أو يسير) أننا نشأنا وسمعنا الثانية كثيراً بعد أن ترجموها لنا من كلمة common ground، ومن يدرِ لعل العرنجية تُدخل للأجيال القادمة “على نفس الصفحة” فلا ينكروها كما أدخلت العرنجية كثيراً غيرها.

أسف إلى هوة الرطانة الأعجمية المعربة، وارتضخ تلك اللكنة المعوجة، وأعين بنفسي على لغتي وقوميتي وأكتب كتابة تميت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سنتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشساء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها

رأي مصطفى صادق الرافعي بالعرنجية

لم يكن مصطلح العرنجية مصكوكاً في زمن الأديب والعالم مصطفى صادق الرافعي ولكن وقفتُ على اقتباس من كتابه “تحت راية القرآن” أو “المعركة بين القديم والجديد”عام 1953م ورد في كتاب “تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر” لنفوسة زكريا سعيد يصف بها تماماً العرنجية التي سماها أسلوب الترجمة في الجملة الإنكليزية وأيضاً سماها الأعجمية المعرّبة وسمى الأسلوب الفصيح بالجملة القرآنية، فقال رحمه الله: ” وإذا أنا تركت الجملة القرآنية وعربيتها وفصاحتها وسموها، وقيامها في تربية الملكة وإرهاف المنطق وصقل الذوق مقام نشأة خالصة في أفصح قبائل العرب، وردها تاريخنا القديم إلينا حتى كأننا فيه، وصلتنا به حتى كأنه فينا، وحفظها لنا منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنطق الفصحاء من قومه حتى لكأن ألسنتهم عند التلاوة هي تدور في أفواهنا وسلائقهم هي تقيمنا على أوزانها – إذا أنا فعلت ذلك ورضيته أفتراني أتبع أسلوب الترجمة في الجملة الإنجيلية … وأسف إلى هوة الرطانة الأعجمية المعربة، وارتضخ تلك اللكنة المعوجة، وأعين بنفس على لغتي وقوميتي وأكتب كتابة تميت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سنتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشياء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها؟”

أسف إلى هوة الرطانة الأعجمية المعربة، وارتضخ تلك اللكنة المعوجة، وأعين بنفسي على لغتي وقوميتي وأكتب كتابة تميت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سنتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشياء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها

مصطفى صادق الرافعي – المعركة بين القديم والجديد

و أغلظ رحمه الله القول على دعاة العرنجية فقال لهم والحق يقطر من قوله: “فرأيت القوم قد أثمرت شجرتهم ثمرها المر وخلف من بعدهم خلف أضاعو العربية بعربيتهم، وأفسدوا اللغة بلغتهم، ودفعوا الأقلام في أسلوب ما أدري أهو عبراني إلى العربية أم عربي إلى العبرانية لا يعرفون غيره ولا يطيقون سواه، وترى أحدهم يهوي باللغة إلى الأرض وإنه عند نفسه لطائر بها في طيارة من طراز زبلن! وليتهم اقتصروا على أنفسهم وأنصفو منها، بل هم يدعون إلى مذهبهم ذلك، ويعتدونه المذهب لا معدل عنه، ويسمونه الجديد لا رغبة من دونه، وبعتبرونه الصحيح لا يصح إلا هو، وكلهم يعلم أنه ليس بصاحب لغة ولا هو معني بها ولا كان ممن يتسمون بها بعلومها” وزاد رحمه الله فوصف فعلهم كفعل الصغار فقال: “كآراء الصغار في الأمور الكبيرة، فيحاولون أن يختلقوا في اللغة فطرة جديدة غير تلك الأولى التي وضعت عليها جبلتها واستقام بها أمرها، وتحقق إعجاز الفصاحة العربية بخصائصها.”.

ردّ الرافعي سبب دعوتهم هذه إلى أحد ثلاث فقال: “لا أعرف من السبب في ضعف الأساليب الكتابية والنزول باللغة دون منزلتها إلا واحدا من ثلاثة: فإما مستعمرون يهدمون الأمة في لغتها وآدابها لتتحول عن أساس تاريخها الذي هي أمة به ولن تكون أمة إلا به، وإما النشأة في الأدب على مثل منهج الترجمة في الجملة الإنجيلية والانطباع عليها وتعويج اللسان بها، وإما الجهل من حيث هو الجهل أو من حيث الضعف”

ما هو الدواء وكيف سيغير الكتاب ذائقتك؟

 أثرُ الكتاب على قراءتي للنصوص العربية المعاصرة واضح، فبعد انتهائي من قراءة الكتاب بتُّ أستشعر العرنجية بوضوح. يستطيع من يتحدث لغتين رد الكلام بسرعة لنظيره وهذا من أسهل طرق كشف العرنجية وبت كما نصح المؤلف أجد من ذلك تمريناً يساعد على إقواء قدرتي على كشف التعرنج. لقد وضع المؤلف باباً فيه أمثلة لنصوص بالعربية لكتّاب مختلفين وفضلاء ووقف على كل نص وأشار فيه لمواضع التعرنج. ليس من السهل إبراؤنا من العرنجية فقد اختلط الفصيح بالعرنجية في سلائقنا. لذلك لم يترك المؤلف توصيف الداء دون توصيف الدواء وقد أفرد له الباب الأخير (تقويم اللسان) وقسّمه بين نصائح للناس عامة وبين من يعمل بصنعة الترجمة. نصح المؤلف من أراد أن يقّوم سليقته ومن أراد أن يبني سليقة صحيحة أن يطالع الكتب من قبل عصر الترجمة في عهد محمد علي أي ما أُلف بعد سنة 1250 هـ .

العرنجية مصيبة تضاف لمصائب أحلت بالعربية 

إن العرنجية من الأسقام التي ابتليت بها أمة المسلمين والعرب ما بين عجز لدى الأكثرية عن استخدام العربية الفصحى سواءً الفصيحة أو المتفرنجة وما بين انتشار العامية وما يسميها العلماء بظاهرة ثنائية اللغة. وللمهتم بمعالجة عجز الأطفال عن استخدام الفصحى أن يتابع ما نشره الدكتور الباحث عبد الله الدنان من طريقة مبتكرة لتمكين الأطفال وتنشئهم على الفصحى ممارسةً في المدارس وهي طريقة أثبتها بالأرقام في دور الحضانة وحتى أثبتها بمارستها مع أطفاله. على المهتم في الاستزادة النظر لبحث الدكتور عبد الدنان المعنون بـ “نظرية تعليم اللغة العربية بالفطرة والممارسة تطبيقها وانتشارها“. 

إن العربية عندنا ليست هوية ولا تراثاً قومياً فحسب وإنما هي لغة ديانتنا وليست العربية للعرب فقط بل هي لغة الإسلام وحفاظنا عليها سليمة نقية هي من باب حفظنا للإسلام والقرآن وليس لنا الخيار ولا الرأي في ذلك. فالأراء مهمّا كانت مقنعة وواقعية في تبرير العرنجية فإنا ستعجز إن واجهت واجب الحفاظ على لغة القرآن. إن العرنجية بمعونة بلاء العامية واللحن المنتشر مع استمرئنا لهم أو تعايشنا معهم لا محالة سيُميتوا قدرتنا على فهم القرآن وتدبره، ولن نستطيع فهم كلام الله ونبيه دون ترجمان وإنا نقترب لذلك بسرعة ولمن أراد إدراك بعدنا عن تذوق حلاوة كتاب الله فعليه بمقالة أحال إليها المؤلف واسمها “هذه التلاوة، فأين الحلاوة والطلاوة؟” لكاتبها أيوب الجهني على مدونة أثارة.

هذه التلاوة، فأين الحلاوة والطلاوة؟

أيوب الجهني

لو تأملنا بصدق لوجدنا أننا لا شك نعظّم كتاب الله ونفديه بأرواحنا ولكن فاتنا بسبب جهلنا بلغتنا وعلوم البلاغة أن نستذوق حلاوة القرآن كما استذاقه الأوائل. ولا شك أن بعدنا عن فهم القرآن هو من أشراط الساعة كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ذكر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلم شيئًا قال : ذاك عند أوانِ ذهابِ العلمِ قلتُ يا رسولَ اللهِ : كيف يذهبُ العلمُ ونحنُ نقرأُ القرآنَ ونقرِئهُ أبناءَنا ويقرِئهُ أبناؤنا أبناءَهم إلى يومِ القيامةِ ؟ قال : ثَكِلتكَ أمكَ يا زيادُ : إن كنتُ لأراكَ من أفقهِ رجلٍ بالمدينةِ أوَليس هذه اليهودُ والنصارَى يقرءونَ التوراةَ والإنجيلَ لا يعملونَ بشيءٍ منهما” 

ولا أوُرد الحديث لكي نركن لأمر واجب الحدوث فإنا كلنا نعلم أن علامات الساعة مؤلمة ولكنها حق سيأتي ولسنا مأمورين بالجلوس كالموتى ننتظرها وإنما أن نعد أنفسنا وأن نعلم أن جهادنا في هذا الباب هو لدفع الجهل عن أبنائنا والأجيال القادمة فلا نعلم أي جيل أو أجيال ستقوم عليهم أشراط الساعة الكبرى.  

أثر الكتاب عليّ في طريقة تدويني 

سيجد من يتعرّضون لكتابات علمية مترجمة العرنجيةَ أكثر من غيرهم وقد صرّح المؤلف بذلك في أكثر من موقع وقد سبب الكتاب لي تحولاً شخصياً في طريقة كتابة المحتوى على الشابكة طبقته للمرة الأولى في مقالة كتبتها على موقع عتاديات . أقدم في عتاديات المقالات باللغتين الإنكليزية والعربية، ولكون المقالات تقنية ومليئة بالمصطلحات الإنكليزية غير المعرّبة، فقد اعتدت على الكتابة أولاً باللغة الإنكليزية وما أن انتهت النسخة الأولى، نقلتها للعربية. وكنت أجد في ذلك سلاسة وخاصة بمساعدة أداة الترجمة من غوغل التي أُعْمل بعدها المراجعة والتدقيق والتعديل عند الضرورة، ولسوء حظي فإني بذلك اتبع نهج العرنجية، وأسمح لغوغل أن يقابل كتابتي الإنكليزية للعربية كلمةً بكلمة. ما أن انتهيت من قراءة الكتاب إلا وقد حان موعد نشري للمقال الأول المشار له، فعزمت أن أعكس العادة، فكتبت بالعربية أولاً وحاولت أن أبتعد ما استطعت عن أساليب العرنجية ومن ثم نقلت المقال للغة الإنكليزية.

العرنجية والواقع

لا شك أن تقويم لساننا ولغتنا المدونة ليس عملاً يسيراً وخاصة لفئات المهندسين والأطباء وغيرهم، الذين ينخرطون في التأليف والترجمة وهم بعيدون عن علوم العربية وغير يسير حتى على أهل الاختصاص اللغوي ممن لم يتعلم الإنكليزية فيصعب عليه كشف العرنجية الدخيلة لديه.

هل هذا يعني أن نستسلم للأمر الواقع؟ الجواب لا ، فأضعف الإيمان أن نؤمن بدواخلنا أن منتوجاتنا المكتوبة تحتاج تقويم وغربلة من العرنجية وأن نبدأ خطوات الشفاء من العرنجية بالإطلاع على العربية النقية والأهم من ذلك أن يستملك ذلك وجداننا فالأمر جد وما هو بالهزل.   

وربما من السليم الدمج بين التوجهات المنضبطة لتطوير اللغة العربية والاستفادة من علوم اللسانيات المتقدمة في اللغات الأخرى مع الحفاظ على اللسان القويم وللمهتمين بتوجيهات وتوصيات من خبير في هذا المجال قراءة الفصل السادس (فجوة اللغة: رؤية معلوماتية) من كتاب الدكتور نبيل علي بعنوان “الفجوة الرقمية”.

وختاماً لا ينكر عاقل أن التصدي للعرنجية يحتاج لجهود عظيمة وتوحيد الأفعال بين الدول العربية وهذا لا يختلف عن المشاكل الأخرى التي تواجه عربيتنا. يكفينا الآن أن نتصدى أفراداً بنشر الوعي ومحاولة تجنب العرنجية في كتباتنا ما استطعنا.  

حبذا لو جاء مهتماً من أهل الاختصاص وأنشأ لنا معجماً مرجعياً عن مواضع العرنجية لكي نتنبه لها وخاصة المتلبّس منها ما لا يسهل كشفه. لحين ذلك الوقت وددت استخلاص معظم الكلمات والأساليب التي أوردها المؤلف في كتابه ووضعتها في جدولين. جدول للمفردات والتراكيب وجدول للأساليب. وما هو أهم من المعجم هو إضافة هذا النوع من التدقيق اللغوي في الأدوات الحاسوبية مثل غلطاوي للتدقيق اللغوي المشكور صاحبها  الدكتور طه زروقي لإنجازاته في اللسانيات الحاسوبية المختصة بخدمة اللغة العربية.

ويسعدني ختاماً أن أستمع لآراء من قرأ هذه المراجعة وكان له رأي مخالف أو موافق، فالموضوع شيق وخاصة لمعشر التنقيين ومنتجي المحتوى المكتوب.

للاستزادة

دلّل المؤلف لعدد من الكتب تنقد العربية العصرية وإن لم تُسَمِها باسمها العرنجية وهي كتب ينبغي مطالعتها بعد هذا الكتاب وأنوي ذلك وهي:

  • كتاب تقويم اللسانين للدكتور محمد تقي الدين الهلالي  وهو كتاب صدر عام 1984.
  • كتاب غصن لبنان في انتقاد العربية العصرية لشاكر شقير اللبناني  وهو كتاب صدر عام 1891.
  • كتاب لغة الجرائد لإبراهيم اليازجي وهو كتاب صدر عام 1901
  • ومن النافع أيضاً الاطلاع على تعليق الدكتور محمد خليل الزروق على كتاب العرنجية بعنوان (عرض ومناقشة..كتاب”العرنجية: بلسان عربي هجين”)

وقد أنشأ مجموعة من التراجِمَة ومنهم المؤلف أحمد الغامدي موقعاً دل عليه المؤلف في الكتاب واسمه الرصائف وهو موقع انتقى القائمون عليه مجموعة من الكتب الفصيحة وقرنوها مع تراجم إنكليزية لها، وحث المؤلف التراجمة على تتبع ما يُشكل عليهم من الترجمات وذلك بالعودة للموقع والنظر لمقابل الكلمة أو الأسلوب في اللغة العربية الصحيحة الفصيحة وقد أنشأؤوا لذلك وسماً على تويتر واسمه #لطائف_الرصائف وفي هذا الوسم مزيداً من الأمثلة على العرنجية التي يكتشفها التراجمة.

وختاماً حض المؤلف الاستماع للكتب الصوتية المسجلة لأمهات الكتب وأوصى بثلاث أقنية نتشر تسجيلات الكتب وهي: 

فهرسة الأمثلة والأساليب التي وردت في الكتاب في (جداول العرنجية) وهي قابلة للإضافة وإعادة الاستخدام.
كل الشكر للصديق الصدوق فهد الحسين(@MFahdHussein) لمراجعة المقال وتصحيحه بعض الأخطاء المطبعية والإملائية.

يحيى طويل

من أرض الشام ومن سوريا تحديداً وأحمل شهادة الماجستير (2023) والدرجة الجامعية في هندسة الإلكترونيات والحواسيب (2015). حملتني الأقدار لأعيش في أقطار شتّى بعد سوريا ، فعشت في السودان وماليزيا وتركيا ، وعملت بتخصصي منذ تخرجي مهندس نظم مدمجة بشركات عديدة. أحب الكتابة والتدوين ولذلك أكتب في تخصصي في موقع (عتاديات) وسأبدأ في (كلمات) تجربتي الجديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى